غربلة العلوم- مسائل فقهية في كتب العقيدة، وأثرها على الفكر الإسلامي.

إن رصيدنا المعرفي والثقافي يستدعي مراجعة دقيقة وفاحصة، فالنهضة والتقدم المنشود لا يتحققان إلا بتطوير العلوم والمعارف، وإثراء محتواها بما يستجد من دراسات وأبحاث، مع الحرص التام على تنقيحها وغربلتها. فكم من مؤلفات تراثية زاخرة بالمادة العلمية، لكنها مع ذلك قد شابتها بعض الشوائب، إذ أُقحمت عليها موضوعات غريبة عنها، لا تمت بصلة إلى صلب العلم أو الفن الذي تنتمي إليه، وهذا الإقحام قد يفضي إلى الوقوع في أخطاء جسيمة ومزالق وخيمة العواقب.
وخير مثال على ذلك، تلك المؤلفات التي تتناول قضايا العقيدة الإسلامية، حيث نجد في طياتها مسائل ومباحث لا تنتمي إليها في الأصل، بل تم استيرادها من علوم أخرى، وإدراجها فيها. إن تنقية هذه الكتب وإعادة كل مسألة إلى موطنها الأصلي يسهم إسهامًا فعالًا في صيانة العقل المسلم من الانزلاق في مهاوي التكفير والتفسيق، ويحميه من الاضطراب المنهجي في التفكير، ويجنبه التشدد المذموم في أمور لا تستدعي هذا القدر من الغلو والتطرف.
ولكي تتضح الصورة جلية، دعونا نتأمل بعض النماذج لموضوعات معينة وجدت طريقها إلى كتب العقيدة، في حين أن مكانها الأمثل هو كتب الفقه. فمن المعلوم بالضرورة أن كتب العقيدة تعنى في المقام الأول بأصول الإيمان، وتحدد المعايير التي تحدد دخول المرء في دائرة الإسلام أو خروجه منها، وتفصل الأفعال والأقوال التي تنقض هذا الدخول. غير أن بعض المسائل، التي تنتمي في الأصل إلى أبواب أخرى كوظائف السياسة الشرعية أو الفقه الفروعي، قد انتقلت على نحو خاطئ إلى كتب العقيدة، وهو ما يستدعي تصحيحًا فوريًا وإعادة الأمور إلى نصابها.
المسح على الخفين
من بين القضايا اللافتة التي تطالعنا في بعض كتب العقيدة، مسألة المسح على الخفين. فقد أوردها الإمام الطحاوي في عقيدته الذائعة الصيت، "العقيدة الطحاوية"، والتي حظيت باهتمام بالغ وشروح مستفيضة من قبل جمهرة غفيرة من علماء الأمة السابقين والمعاصرين. وضمن هذه العقيدة، نجد حديثًا عن المسح على الخفين، حيث يقول الطحاوي: (ونرى المسح على الخفين في السفر والحضر، كما جاء في الأثر). وقد سعى شُرَّاح العقيدة الطحاوية إلى تبرير إدراج هذا الموضوع في العقيدة، بحجة أن الغاية من ذلك هي مخالفة آراء الشيعة الذين ينكرون جواز المسح على الخفين.
ويقول البابرتي، وهو أحد شراح العقيدة الطحاوية: (إنما ذكر هذا ردًا لقول أهل الرفض، فإنهم أنكروا جواز المسح على الخفين، وهذا وإن كان من أحكام الفقه لكنه لما اشتهرت فيه الآثار ألحقه بالعقائد، دفعًا لإنكار المنكرين).
ولكن الحقيقة التي لا مراء فيها هي أن موضوع المسح على الخفين، شأنه شأن غيره من المسائل الفقهية، يجب أن يبقى في مكانه الطبيعي ضمن كتب الفقه، وبذلك يظل حبيس دائرة الحديث عن مسألة فقهية محضة. أما نقله إلى كتب العقيدة فهو أمر غير سديد، حتى وإن تم تبريره بالرغبة في التمييز بين المذهبين: السني والشيعي، بحجة أن المذهب الشيعي لا يقر بالمسح على الخفين، وأنه حكم متواتر عن النبي، صلى الله عليه وسلم.
ومن القضايا الأخرى التي انتقلت من الفقه إلى العقيدة، ولكن هذه المرة من المذهب الشيعي، قضية الحكم والخلافة، إذ جعلوها من قضايا العقيدة وأصولها، وهو أمر غير صحيح على الإطلاق، فالمسألة فقهية محضة.
عند التأمل في وجهة نظر الفقه الشيعي، نجد أنها تستند إلى دلالة نص قرآني، استنادًا إلى قراءة متواترة في الآية الكريمة: (وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين) المائدة: . فكلمة (وأرجلكم) تحتمل قراءتين: الأولى بكسر اللام، فتكون معطوفة على المسح، والثانية بفتحها، فتكون معطوفة على الغسل. وبناءً على ذلك، يرى فقهاء أهل السنة، الذين يوجبون غسل الرجلين، أن المسح على الخفين يجزئ عن الغسل، استنادًا إلى فعل النبي صلى الله عليه وسلم، الذي نقله عنه جمع غفير من الصحابة بلغ حد التواتر. في المقابل، يرى أتباع الفقه الشيعي أن كلمة (أرجلكم) معطوفة على المسح، وبالتالي يجب مسح الرجلين ولا يجوز غسلهما، ولا يجزئ عنهما غير المسح. وتوجد تفاصيل أخرى في هذا الشأن يمكن الرجوع إليها في كتب المذاهب الفقهية.
وبغض النظر عن الرأي الأقوى والأرجح في هذه المسألة، فإن المسح على الخفين قد ورد في السنة النبوية، وبلغ حد التواتر كما يؤكد العديد من الفقهاء والمحدثين. إلا أن دلالة الآية الكريمة لا تمنع من الأخذ بالرأي الذي تبناه الشيعة، وإن كنا لا نرجحه. ولذلك، يظل هذا الرأي رأيًا فقهيًا في دائرة الخلاف الفقهي المستند إلى نص يحتمل أكثر من وجه، مهما بلغت قوة وجه وضعف الوجه الآخر، ويظل بالتالي في دائرة الفقه لا العقيدة.
الحكم والإمامة
ومن القضايا الأخرى التي انتقلت من الفقه إلى العقيدة، ولكن هذه المرة من المذهب الشيعي، قضية الحكم والخلافة، إذ جعلوها من قضايا العقيدة وأصولها، وهو أمر غير صحيح على الإطلاق. فالمسألة فقهية بحتة، تتعلق بالفقه السياسي، ولا تمت بصلة إلى العقيدة. وقد شاركهم في هذا الأمر عدد من كتب العقيدة عند أهل السنة كذلك، إذ انتقلت مباحث الإمامة والحكم إلى كتب العقيدة، كما رأينا في (العقائد النسفية) والحواشي والشروح التي وضعت عليها. ولكن الفرق يكمن في أن أهل السنة جعلوا الإمامة والحكم في باب الوجوب الفقهي، في حين أن الشيعة جعلوها في باب العقيدة والأصول.
وقد تسرب هذا المفهوم أيضًا إلى بعض كتابات الفكر الحركي السني، حيث نجد هذه العبارة عند الشيخ حسن البنا، إذ يقول: (والحكم معدود في كتبنا الفقهية من العقائد والأصول، لا من الفقهيات والفروع). وقد حاول الشيخ القرضاوي أن يوجه كلمته، بأنه ربما قصد فروع العقيدة، إلا أن الجملة صريحة في إيراد كلمة العقائد والأصول.
وربما كان الدافع وراء قول البنا ذلك هو ما لمسه في عصره من إنكار لوجود الحكم والسياسة في الإسلام. إلا أن مواجهة إنكار فرائض أو واجبات في الإسلام لا تبرر نقلها من موضعها الفقهي إلى الموضع العقدي. وقد كتب الدكتور محمد عمارة عن هذا الموضوع، ورجح أنه تسرب من الفكر الشيعي، إلا أنني أعتقد أن عمارة قد جانبه الصواب في هذا الرأي، فالشيخ البنا لم يكن مطلعًا على الفقه الشيعي في تلك الفترة، إذ أن كلامه هذا ورد في رسالة المؤتمر الخامس الذي عقد عام 1939م، ولم يكن وقتها هناك تواصل فكري يُذكر بين المصريين والفكر الشيعي إلا عند قلة قليلة منهم.
فقضية الحكم لا ترتبط بالعقيدة بأي شكل من الأشكال، إلا من حيث المقصود بالحكم، أي: التشريع، ومن يشرع للناس، كما في الآيات الكريمة: (ومن لم يحكم بما أنزل الله)، و(إن الحكم إلا لله). فالحكم هنا يراد به الحكم الشرعي المطلق، ومن يملك التشريع للناس في دينها. أما الحكم بمعنى الإدارة للشعب في الاختيار وغيره، فهو يندرج في باب السياسة الشرعية، أي: باب الفقه والفروع، وليس من باب الأصول التي تدخل في باب الإيمان والكفر، أو الاعتقاد.
إن إخراج هذه المسألة من دائرة الفقه إلى دائرة العقيدة قد أدى إلى نشوء أفكار متشددة حول قضية الحكم، وطلب الحكم، والسعي إليه، على جميع المستويات. وقد تجلى هذا التشدد سواء لدى المؤيدين للسلطة الذين يرون حرمة الخروج عليها، ويغلظون في هذا الأمر حتى لو كان خروجًا سلميًا، أو لدى الذين يرون السعي للحكم ضرورة قصوى، لأنه في باب الأصول والعقائد، ويرون أن غياب الحكم يعني غياب ركن أساسي ومهم، إلا أنه في حقيقة الأمر مهم في بابه، وهو باب الفروع، والواجبات الفقهية لا الواجبات العقدية التي تتعلق بأصل الإيمان والكفر.
التوسل بالصالحين
ومن أشد القضايا إثارة للخلط في هذا الباب، ما يفعله البعض من إقحام موضوع التوسل إلى الله بالصالحين من الأموات، كأن يدعو شخص الله تعالى متوسلًا إليه بجاه النبي صلى الله عليه وسلم، أو ببركة الولي الصالح فلان. فهذه مسألة فقهية بحتة، يقال فيها: جائز أو غير جائز، حلال أو حرام، لكنها ليست من قضايا العقيدة التي يقال فيها: كفر أو إيمان. والخلط الذي يقع هنا هو تحويل مثل هذه المسألة الفرعية إلى قضية عقدية، فيقال عنها: شرك، مع أنها قضية خلافية بين الفقهاء، تتكافأ فيها أدلة الجواز مع التحريم، ولكنها لا تدخل في باب الاعتقاد، وذلك لأن المسألة ليست متعلقة بدعاء غير الله، بل بدعاء الله تعالى، ولكن الداعي توسل إلى الله بأحد الصالحين من خلقه.
الحلف بغير الله
ومن المسائل المشابهة لهذه المسألة، مسألة الحلف بغير الله، كأن يحلف الإنسان بالكعبة، أو بالنبي صلى الله عليه وسلم، أو برحمة أبيه أو أمه. فهي قضية فقهية، يقال فيها: جائز أو غير جائز، لكنها لا تدخل في باب الشرك بالله تعالى، أو في باب الاعتقاد، لأن من يحلف هنا لا يجعل من حلف به في مقام الله تعالى، بل أراد أن يحلف بشيء له قيمة عنده كي يصدقه الناس. ولو كان هذا الحلف في باب العقيدة والإيمان والكفر، لما جعل الفقهاء الحلف بالطلاق يقع أو لا يقع حسب نية الحالف، هل قصد الطلاق أم لا؟ لأنه لو كان الحلف وقتها كفرًا، لأفتوا بأن الزوج الحالف مرتد أو كافر، وبالتالي تذهب القضية هنا للتفريق بين الزوجين، وليس لوقوع الطلاق أم لا. والنماذج في هذا الباب وفيرة جدًا.
نزول المسيح، وخروج الدجال
ومن المسائل التي رفض الشيخ محمد أبو زهرة رحمه الله أن يدرجها في كتابه عن العقيدة الإسلامية، مسألة نزول المسيح عليه السلام في آخر الزمان، والدجال، إذ قال: (تركنا ما لم يثبت إلا بأخبار الآحاد، كنزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان، وكأخبار المسيخ الدجال، فإننا وإن كنا نقبلها، ولا نردها كما قررنا في صدر كلامنا لا نضيفها إلى أصل العقيدة الذي يعتبر منكره كافرًا).
والهدف من هذا المقال ليس حصر القضايا التي دخلت في صلب العقيدة وكتبها، مع أنها ليست منها في الأصل، بل هو تقديم نماذج توضيحية، تهدف إلى بيان الكيفية التي يمكن أن يلحق بها الضرر جراء إدخال فرع علمي في آخر، لا سيما إذا تم البناء على هذا الخطأ، مما قد يؤدي إلى الوقوع في مزالق خطيرة تهدد وحدة الأمة، وتقود إلى التكفير أو التفسيق أو التبديع، في حين أن المسألة تحتمل الاختلاف بين الباحثين والعلماء.